كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



إن بني إسرائيل عبيد لله وحده؛ فما ينبغي أن يعبدهم فرعون لنفسه! إن الإنسان لا يخدم سيدين، ولا يعبد إلهين. فمن كان عبداً لله، فما يمكن أن يكون عبداً لسواه. وإذ كان فرعون إنما يعبد بني إسرائيل لهواه؛ فقد أعلن له موسى أن رب العالمين هو الله. وإعلان هذه الحقيقة ينهي شرعية ما يزاوله فرعون من تعبيد بني إسرائيل!
إن إعلان ربوبية الله للعالمين هي بذاتها إعلان تحرير الإنسان. تحريره من الخضوع والطاعة والتبعية والعبودية لغير الله. تحريره من شرع البشر، ومن هوى البشر، ومن تقاليد البشر، ومن حكم البشر.
وإعلان ربوبية الله للعالمين لا يجتمع مع خضوع أحد من العالمين لغير الله؛ ولا يجتمع مع حاكمية أحد بشريعة من عنده للناس.. والذين يظنون أنهم مسلمون بينما هم خاضعون لشريعة من صنع البشر- أي لربوبية غير ربوبية الله- واهمون إذا ظنوا لحظة واحدة أنهم مسلمون! إنهم لا يكونون في دين الله لحظة واحدة وحاكمهم غير الله، وقانونهم غير شريعة الله. إنما هم في دين حاكمهم ذاك. في دين الملك لا في دين الله!
وعلى هذه الحقيقة أُمر موسى- عليه السلام- أن يبني طلبه من فرعون إطلاق بني إسرائيل:
{يا فرعون إني رسول من رب العالمين}... {فأرسل معي بني إسرائيل}...
مقدمة ونتيجة.. تتلازمان ولا تفترقان..
ولم تغب على فرعون وملئه دلالة هذا الإعلان. إعلان ربوبية الله للعالمين.. لم يغب عنهم أن هذا الإعلان يحمل في طياته هدم ملك فرعون. وقلب نظام حكمه، وإنكار شرعيته، وكشف عدوانه وطغيانه.. ولكن كان أمام فرعون وملئه فرصة أن يظهروا موسى بمظهر الكاذب الذي يزعم أنه رسول من رب العالمين بلا بينة ولا دليل:
{قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين}..
ذلك أنه إذا اتضح أن هذا الداعية إلى ربوبية رب العالمين كاذب في دعواه؛ سقطت دعوته، وهان أمره؛ ولم يعد لهذه الدعوة الخطيرة من خطر- وصاحبها دعيّ لا بينة عنده ولا دليل!
ولكن موسى يجيب:
{فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين}..
إنها المفاجأة! إن العصا تنقلب ثعباناً لا شك في ثعبانيته.. {مبين}.. وكما قيل في سورة أخرى: {فإذا هي حية تسعى} ثم إن يده السمراء- وقد كان موسى عليه السلام آدم أي مائلاً إلى السمرة- يخرجها من جيبه فإذا هي بيضاء من غير سوء، بيضاء ليست عن مرض، ولكنها المعجزة، فإذا أعادها إلى جيبه عادت سمراء!
هذه هي البينة والآية على الدعوى التي جاء بها موسى.
إني رسول من رب العالمين.
ولكن هل يستسلم فرعون وملؤه لهذه الدعوى الخطيرة؟ هل يستسلمون لربوبية رب العالمين؟ وعلام إذن يقوم عرش فرعون وتاجه وملكه وحكمه؟ وعلام يقوم الملأ من قومه ومراكزهم التي هي من عطاء فرعون ورسمه وحكمه؟
علام يقوم هذا كله إن كان الله هو {رب العالمين}؟
إنه إن كان الله هو {رب العالمين} فلا حكم إلا لشريعة الله، ولا طاعة إلا لأمر الله.. فأين يذهب شرع فرعون وأمره إذن، وهو لا يقوم على شريعة الله ولا يرتكن إلى أمره؟.. إن الناس لا يكون لهم {رب} آخر يعبدهم لحكمه وشرعه وأمره، إن كان الله هو ربهم.. إنما يخضع الناس لشرع فرعون وأمره حين يكون ربهم هو فرعون. فالحاكم- بأمره وشرعه- هو رب الناس. وهم في دينه أياً كان!
كلا! إن الطاغوت لا يستسلم هكذا من قريب. ولا يسلم ببطلان حكمه وعدم شرعية سلطانه بمثل هذه السهولة!
وفرعون وملؤه لا يخطئون فهم مدلول هذه الحقيقة الهائلة التي يعلنها موسى. بل إنهم ليعلنونها صريحة. ولكن مع تحويل الأنظار عن دلالتها الخطيرة، باتهام موسى بأنه ساحر عليم:
{قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون}..
إنهم يصرحون بالنتيجة الهائلة التي تتقرر من إعلان تلك الحقيقة. إنها الخروج من الأرض.. إنها ذهاب السلطان.. إنها إبطال شرعية الحكم.. أو.. محاولة قلب نظام الحكم!.. بالتعبير العصري الحديث!
إن الأرض لله. والعباد لله. فإذا ردت الحاكمية في أرض لله، فقد خرج منها الطغاة، الحاكمون بغير شرع الله! أو خرج منها الأرباب المتألهون الذين يزاولون خصائص الألوهية بتعبيد الناس لشريعتهم وأمرهم. وخرج منها الملأ الذين يوليهم الأرباب المناصب والوظائف الكبرى، فيعبدون الناس لهذه الأرباب!
هكذا أدرك فرعون وملؤه خطورة هذه الدعوة.. وكذلك يدركها الطواغيت في كل مرة.. لقد قال الرجل العربي- بفطرته وسليقته- حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: «هذا أمر تكرهه الملوك!». وقال له رجل آخر من العرب بفطرته وسليقته: إذن تحاربك العرب والعجم.. لقد كان هذا العربي وذاك يفهم مدلولات لغته. كان يفهم أن شهادة أن لا إله إلا الله ثورة على الحاكمين بغير شرع الله عرباً كانوا أم عجماً! كانت لشهادة أن لا إله إلا الله جديتها في حسن هؤلاء العرب، لأنهم كانوا يفهمون مدلول لغتهم جيداً. فما كان أحد منهم يفهم أنه يمكن أن تجتمع في قلب واحد، ولا في أرض واحدة، شهادة أن لا إله إلا الله، مع الحكم بغير شرع الله! فيكون هناك آلهة مع الله! ما كان أحد منهم يفهم شهادة أن لا إله إلا الله كما يفهمها اليوم من يدعون أنفسهم مسلمين.
ذلك الفهم الباهت التافه الهزيل!
وهكذا قال الملأ من قوم فرعون، يتشاورون مع فرعون:
{إن هذا لساحرعليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون}..
واستقر رأيهم على أمر:
{قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم}..
وكانت أرض مصر تموج بالكهنة في شتى المعابد. وكان الكهنة هم الذين يزاولون أعمال السحر. ففي الوثنيات كلها تقريباً يقترن الدين بالسحر؛ ويزاول السحر كهنة الديانات وسدنة الآلهة! وهذه الظاهرة هي التي يلتقطها علماء الأديان! فيتحدث بعضهم عن السحر كمرحلة من مراحل تطور العقيدة! ويقول الملحدون منهم: إن الدين سيبطل كما بطل السحر! وإن العلم سينهي عهد الدين كما أنهى عهد السحر!.. إلى آخر هذا الخبط الذي يسمونه: العلم!
وقد استقر رأي الملأ من قوم فرعون، على أن يرجئ فرعون موسى إلى موعد. وأن يرسل في أنحاء البلاد من يجمع له كبار السحرة. ذلك ليواجهوا سحر موسى- بزعمهم- بسحر مثله.
وعلى كل ما عرف من طغيان فرعون، فقد كان في تصرفه هذا أقل طغياناً من طواغيت كثيرة في القرن العشرين؛ في مواجهة دعوة الدعاة إلى ربوبية رب العالمين! وتهديد السلطان الباطل بهذه الدعوة الخطيرة!
ويطوي السياق القرآني إجراء فرعون وملئه في جمع السحرة من المدائن؛ ويسدل الستار على المشهد الأول، ليرفعه على المشهد التالي.. وذلك من بدائع العرض القرآني للقصص، كأنه واقع منظور، لا حكاية تروى!
{وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين}..
إنهم محترفون... يحترفون السحر كما يحترفون الكهانة! والأجر هو هدف الاحتراف في هذا وذاك! وخدمة السلطان الباطل والطاغوت الغالب هي وظيفة المحترفين من رجال الدين! وكلما انحرفت الأوضاع عن إخلاص العبودية لله، وإفراده- سبحانه- بالحاكمية؛ وقام سلطان الطاغوت مقام شريعة الله، احتاج الطاغوت إلى هؤلاء المحترفين، وكافأهم على الاحتراف، وتبادل وإياهم الصفقة: هم يقرون سلطانه باسم الدين! وهو يعطيهم المال ويجعلهم من المقربين!
ولقد أكد لهم فرعون أنهم مأجورون على حرفتهم، ووعدهم مع الأجر القربى منه، زيادة في الإغراء، وتشجيعاً على بذل غاية الجهد.. وهو وهم لا يعلمون أن الموقف ليس موقف الاحتراف والبراعة والتضليل؛ إنما هو موقف المعجزة والرسالة والاتصال بالقوة القاهرة، التي لا يقف لها الساحرون ولا المتجبرون!
ولقد اطمأن السحرة على الأجر، واشرأبت أعناقهم إلى القربى من فرعون، واستعدوا للحلبة.. ثم ها هم أولاء يتوجهون إلى موسى- عليه السلام- بالتحدي.
ثم يكون من أمرهم ما قسم الله لهم من الخير الذي لم يكونوا يحتسبون، ومن الأجر الذي لم يكونوا يتوقعون:
{قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا}..
ويبدو التحدي واضحاً في تخييرهم لموسى. وتبدو كذلك ثقتهم بسحرهم وقدرتهم على الغلبة.. وفي الجانب الآخر تتجلى ثقة موسى- عليه السلام- واستهانته بالتحدي: {قال ألقوا}.. فهذه الكلمة الواحدة تبدو فيها قلة المبالاة، وتلقي ظل الثقة الكامنة وراءها في نفس موسى. على طريقة القرآن الكريم في إلقاء الظلال، بالكلمة المفردة في كثير من الأحايين.
ولكن السياق يفاجئنا بما فوجئ به موسى- عليه السلام- وبينما نحن في ظلال الاستهانة وعدم المبالاة، إذا بنا أمام مظهر السحر البارع، الذي يرهب ويخيف:
{فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم}..
وحسبنا أن يقرر القرآن أنه سحر عظيم، لندرك أي سحر كان. وحسبنا أن نعلم أنهم سحروا {أعين الناس} وأثاروا الرهبة في قلوبهم: {واسترهبوهم} لنتصور أي سحر كان. ولفظ استرهب ذاته لفظ مصور. فهم استجاشوا إحساس الرهبة في الناس وقسروهم عليه قسراً. ثم حسبنا أن نعلم من النص القرآني الآخر في سورة طه، أن موسى عليه السلام قد أوجس في نفسه خيفة لنتصور حقيقة ما كان!
ولكن مفاجأة أخرى تطالع فرعون وملأه، وتطالع السحرة الكهنة، وتطالع جماهير الناس في الساحة الكبرى التي شهدت ذلك السحر العظيم:
{وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين}..
إنه الباطل ينتفش، ويسحر العيون، ويسترهب القلوب، ويخيل إلى الكثيرين أنه غالب، وأنه جارف، وأنه مُحيق! وما هو إلا أن يواجه الحق الهادئ الواثق حتى ينفثئ كالفقاعة، وينكمش كالقنفذ، وينطفئ كشعلة الهشيم! وإذا الحق راجح الوزن، ثابت القواعد، عميق الجذور.. والتعبير القرآني هنا يلقي هذه الظلال، وهو يصور الحق واقعاً ذا ثقل: {فوقع الحق}.. وثبت، واستقر.. وذهب ما عداه فلم يعد له وجود: {وبطل ما كانوا يعملون}.. وغلب الباطل والمبطلون وذلوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يبهر العيون:
{فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين}..
ولكن المفاجأة لم تختم بعد. والمشهد ما يزال يحمل مفاجأة أخرى.. مفاجأة كبرى..
{وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون}..
إنها صولة الحق في الضمائر. ونور الحق في المشاعر، ولمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقي الحق والنور واليقين.. إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم، ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه. وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى إن كان من السحر والبشر، أم من القدرة التي وراء مقدور البشر والسحر. والعالم في فنه هو أكثر الناس استعداداً للتسليم بالحقيقة فيه حين تتكشف له، لأنه أقرب إدراكاً لهذه الحقيقة، ممن لا يعرفون في هذا الفن إلا القشور.
ومن هنا تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق، الذي يجدون برهانه في أنفسهم عن يقين..
ولكن الطواغيت المتجبرين لا يدركون كيف يتسرب النور إلى قلوب البشر؛ ولا كيف تمازجها بشاشة الإيمان؛ ولا كيف تلمسها حرارة اليقين. فهم لطول ما استعبدوا الناس يحسبون أنهم يملكون تصريف الأرواح وتقليب القلوب- وهي بين إصبعين من أصابع الرحمن يقبلها كيف يشاء-.. ومن ثم فوجئ فرعون بهذا الإيمان المفاجئ الذي لم يدرك دبيبه في القلوب ولم يتابع خطاه في النفوس؛ ولم يفطن إلى مداخله في شعاب الضمائر.. ثم هزته المفاجأة الخطيرة التي تزلزل العرش من تحته: مفاجأة استسلام السحرة- وهم من كهنة المعابد- لرب العالمين. رب موسى وهارون. بعد أن كانوا مجموعين لإبطال دعوة موسى وهارون إلى رب العالمين!.. والعرش والسلطان هما كل شيء في حياة الطواغيت.. وكل جريمة يمكن أن يرتكبوها بلا تحرج في سبيل المحافظة على الطاغوت:
{قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين}..
هكذا.. {آمنتم به قبل أن آذن لكم}.. كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق- وهم أنفسهم لا سلطان لهم عليها- أو يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم- وهم أنفسهم لا يملكون من أمرها شيئاً- أو يستأذنوه في أن تشرق أرواحهم- وهم أنفسهم لا يمسكون مداخلها. أو كأنما كان عليهم أن يدفعوا اليقين وهو ينبت من الأعماق. أو أن يطمسوا الإيمان وهو يترقرق من الأغوار. أو أن يحجبوا النور وهو ينبعث من شعاب اليقين!
ولكن الطاغوت جاهل غبي مطموس؛ وهو في الوقت ذاته متعجرف متكبر مغرور!
ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز:
{إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها}..
وفي نص آخر: {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} والمسألة واضحة المعالم.. إنها دعوة موسى إلى رب العالمين.. هي التي تزعج وتخيف.. إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين. وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته. وإقامة أنفسهم أرباباً من دون الله يشرعون للناس ما يشاءون، ويعبدون الناس لما يشرعون!.. إنهما منهجان لا يجتمعان.. أو هما دينان لا يجتمعان.. أو هما ربان لا يجتمعان.. وفرعون كان يعرف وملؤه كانوا يعرفون.. ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى رب العالمين. فأولى أن يفزعوا الآن وقد ألقي السحرة ساجدين. قالوا: آمنا برب العالمين. رب موسى وهارونَ والسحرة من كهنة الديانة الوثنية التي تؤله فرعون، وتمكنه من رقاب الناس باسم الدين!
وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع:
{فسوف تعلمون.
لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين}..